الأربعاء، 29 أكتوبر 2008

التربية المنشودة

إن التربية المنشودة ليست شيئًا سهلاً، إنها معاناة وجهد يقوم بهما المربِّي والمربَّي معًا، وتشترك في تحقيق النتيجة عناصر أخرى، في مقدمتها: البيت والبيئة والسلطة الحاكمة، كما يشترك الماء والشعَاع، والحر أو البرد في إنضاح الثمار.
وعظة المنبر، ونصيحة المدرس وحدهما لا تصنعان الناشئ، وإن كان لهما أثرهما. إن علم المنطق كما عرفوه، آلة قانونية تعصم الذهن عن الخطأ في الفكر، ومع ذلك فهذا العلم لا يصنع مفكرًا. وعلم العروض والقوافي قد يحصي بحور القصائد، ويكشف ما في التفاعل من خبن وقبض، وهيهات أن يصنع شاعرًا.
وقد ألفنا أن نتلقى الدين كلامًا أو رسومًا، بيد أن هذا التلقي لا يصنع زكاة الأنفس، ولن تفلح نفس فقدت هذه الزكاة، ولن يفلح امرؤ إذا تحرك عقله تحركت معه قيود الخرافة أو الأوهام التي نسجها الخيال!
والعناصر المؤثرة في التربية لا بد من تجانسها وتناسقها، أي لابد أن ينتظمها ولاء واحد، وأن تتدافع إلى هدف واحد، فإذا كان البيت مسلمًا ملتزمًا لتعاليم الدين فإن عمله سيبطل أو يضعف إذا كانت الحكومة علمانية والمدرسة مدنية.
والخلل الذي نلاحظه على المسلمين المعاصرين يعود كفل ضخم منه على هذا التقطع والتضاد في وسائل التوجيه، فإن الاستعمار العالمي استمات في إقامة أجهزة اجتماعية واقتصادية وسياسية تضرب التربية الإسلامية بخبث وقساوة، فما ينجو إلا من عصم الله.
وأكره أن أحمِّل الاستعمار كل هزائمنا المادية والأدبية، وأن أفرَّ من تبعات التقصير الذي عرقل خطاي من قديم، إننا نحن المسلمين عُنينا بجانب من الأخلاق وأهملنا جوانب ذات بال، وظننَّا أن هذا الإهمال يغفر أو يجبر بالانتماء إلى عقيدة ما، والمداومة على عبادة ما.
أخذنا من الأخلاق جوانبها القريبة، فقد نفهم الأمانة على أنها الوديعة، ونرد ما استودعنا الآخرون إياه، أما أن المنصب أمانة، لا يجوز استغلاله لمأرب خاص، ولا يجوز الإخلال بأعبائه الجسام، فهذا شأن آخر.
ويغلب أن يكون طلب المنصب للاستغناء والاستعلاء، والبحث عن الذات لا البحث عن مصالح الأمة.
والصدق خلق معروف، ويغلب أن نصدق في القول لا في العمل؛ لأن الصدق في العمل صعب، إنه إحقاق الحق وإبطال الباطل، والتزام السنن التي قامت عليها السماوات والأرض.
وقد يتقاضانا هذا أن ننتخب الأصلح، ولو كان من غير قرابتنا، وأن نؤثر بالوظيفة فقيرًا ونطرح غنيًّا، وليس يقدر على هذا إلا.. الرجال.
وحب النفس من طباع البشر، فإلى أي مدى يهيمن هذا الطبع على مسالكنا؟ إن السيارة تقدم، فيسبق الرجل المرأة، ويتخطى الكبير الصغير، ويتحرك هذا الشعور الهابط في عشرات المعاملات، الكل يقول: نفسي نفسي، فهل هذا السلوك هو التفسير المنتظر لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لن يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه"؟
هل وضعنا تنفيذًا عمليًّا يكفكف شرور هذه الأنانية الصغيرة، ويواري هذا الإحساس الحيواني في دماء الناس؟
إن الله كتب الإحسان على كل شيء، ونكاد نحن نكون قد قررنا التقصير في كل شيء.
وقد بحثت عن السبب وراء هذا الخراب النفسي، وهديت إلى شيء قد يكون الحق، أو بعض الحق، إن المغالاة في تقدير الجانب الغيبيِّ من الدين تتم على حساب الجانب العملي أو الواقعي، وهذا خطأ!
رأيت تاجرًا يبيع السلعة لأحد الناس بأغلى من سعرها، فقلت له: لم تغبن هذا المشتري وهو مسترسل معك، قال: ألا تعرف، إنه فلان الذي ينكر كرامات الأولياء. قلت: ينكرها أو يقرها، يجب أن تعامله بشرف! قال: هذا قليل الدين، و.. قلت له: ليكن يهوديًّا أو نصرانيًّا فاستغلاله لا يجوز، والخداع حرام مع المؤمن والكافر. أتظن إيمانك بالكرامات مسقطًا لفضائل الأخلاق.
ولاحظت أن شابًا يتكلم بحقد عن أحد الدعاة، قلت: ما تنقم منه؟ قال: ما يعرف السنة، ألا ترى إسباله لثوبه؟ وما يحسن الصلاة، يقعد وقدماه على هيئة كذا، قلت: تكره مسلمًا وتتمنى له الشر لهذه الصغائر؟
إن تضخيم هذه الأمور دليل مرض نفسي، ومعصية قلبك أبعد عن المغفرة من اضطراب مظهره، ولعله أقرب إلى الله منك.
وعلى هذا النحو ترى رجلاً يتبع مذهبًا في العقيدة، أو في فقه الفروع، فيحسب أن اهتداءه إلى هذا المعنى، أو على هذا المسلك، قد جمع له المجد من أطرافه، فلا حرج عليه أن يتصرف كيف يشاء، وكأنما قال الله له: افعل ما شئت فقد غفرت لك!
ومن هنا استهان كثير من الذاكرين، أو الدارسين لبعض السنن، بمعاقد الأخلاق وقواعد الآداب، كما استهانوا بشؤون الحياة، وضبط مجراها، وامتلاك زمامها، فكانوا نكبة على الدين والدنيا معًا، ولقي الإسلام على أيديهم هزائم نكراء.
والأمراض الخلقية التي تصاب الأمم بها، مع انتشار الفساد السياسي، كثيرة، وهي تختلف من عصر إلى عصر، ولسنا بصدد إحصائها، وإنما نتساءل فقط: ماذا يعنيه تزوير انتخابات في قطرٍ ما؟
إن هذا التزوير يحدث دمارًا أخلاقيًّا أوسع من الدمار الماديّ الذي يحدثه أي زلزال رهيب، جيش من الرجال ذوي المناصب الكبرى والصغرى يتحول إلى خلية نحل في مصنع للأكاذيب واسع الدائرة، هادر الآلات، يعاون بعضه بعضًا في اختلاف الآراء وتسجيلها، وتصعيدها وترحيلها من بلد إلى بلد، ثم تلتقي آخر الأمر كما تلتقي شبكة المجاري القذرة لتخبر العالم كله أن فلانًا أحرز من أصوات الناخبين كذا وكذا، ونجح نجاحًا كاسحًا.
وعندما يمسي الناس ويصبحون على هذا التكاذب المفضوح، أيكون الصدق عملة رائجة أم مزجاة؟ أتستقر في المجتمع تقاليد الشرف أم تقاليد اللصوصية؟ أيتقدم أهل الأدب والتقوى أم يهال عليهم التراب؟
إن دعائم التربية تحتاج إلى حراسة مشددة بعد أن يتم استنقاذها من هذا البلاء المبين!
وعرض ثقافتنا الذاتية على الناس في هذه الأيام ينبغي أن يصحبه ما اكتنفها على مر العصور. ونحن نذكر على عجل أن المسلمين في العصر النبوي، ثم في عصر الخلافة الراشدة، لم تكن لديهم هذه البحوث المطولة في أصول الدين وفروعه، كانت آيات أو سور من القرآن الكريم، وجملة من الأحاديث الصحيحة هي كل ما يعرفون - حاشا المتخصصين وأهل الفتوى - وكان فقه العبادات يتناقل بالأسلوب العمليِّ. ثم يتوجه الجمهور بعد ذلك إلى الكدح والجهاد وإعلاء كلمة الله.
ثم استفاضت الدراسات الدينية، وكثرت البحوث في كل ميدان، ترى هل هذه السعة للتحلي والتسلي أم لمزيد من الخشية والتقى؟
المقرر عندنا أن المرء مسؤول عن علمه ماذا عمل به؟ والذي رأيته وأنا أعمل في ميدان الدعوة من أربعين سنة أو يزيد، أن أكثر هذه المعارف فضول، وأن الناس يقبلون عليها تزجية للفراغ، ومدافعة للبطالة، وأن عشر ما يعلمون يكفيهم في فقه الإسلام كله، ويبقى عليهم بعد ذلك أن ينصرفوا إلى العمل المثمر.
والقرن الرابع عشر ينتهي، ثم يجيء القرن الخامس عشر، ومشكلات الأمة الإسلامية تتعقد وتتضاعف.
والليالي من الزمان حبالى مثقلات يلدن كل عجيبة!
الأعداء تنمو أطماعهم، وتربو ضغائنهم، وتتقارب مسافة الخلف بينهم، والتخلُّف الحضاري، عندنا يثير الأسى، ومع ذلك كله فإن بعض حملة العلم الديني يَسْتَحْيي من الآراء المدفونة ما يثير الغثيان!
وبدلاً من أن يُوجِّه شباب القرن الجديد إلى العمل المناسب لخدمة دينهم، يديرهم في حلقة مفرغة من القضايا التي أوجدها الفراغ أيام الفراغ.
قلت لواحد من هؤلاء: إن الفكر سمن ونما له كرش، من هذه القضايا، وما تعود له صحته إلا إذا ذهبت هذه السمنة، واختفى هذا الكرش، واشتغل المسلمون بعلوم الحياة التي ينصفون بها دينهم المحْرَج، ويردون بها أعداء متوقحين.
وهنا نتكلم عن الثقافة الأخرى المقابلة لثقافتنا التقليدية، أو العلم الذي لا وطن له كما يقال.
لقد فكرت يومًا في "المطبعة ومخترعها" ووددت لو أن هذا المخترع النابه رجل مسلم عربي أو غير عربي، فإن المعروف لدينا أن أول كلمة في وحي الله لنبينا "اقرأ"، لكن هذا الجهاز بدأ ساذجًا في الصين، ثم تحسن كثيرًا في ألمانيا، وبلغ حدًّا من الكمال في هذه الأيام، بعيدًا عن أرض الإسلام.
تساءلت لماذا؟ إن هذا الاختراع وغيره ولد ونما بعيدًا عن مجتمعاتنا، فهل نحن بشر دون البشر؟
وسمعت صحافيًّا يقول في خبره: إن الصحراء الغربية مليئة بالنفط. فقلت: لماذا لا يستخرج؟ قال: إن الشركات الأجنبية ترجئ ذلك إلى حينه. قلت: وما دخل الشركات الأجنبية؟ قال: هي التي تملك أدوات التنقيب، وتتعرف بأجهزتها على الأماكن الحافلة بالمادة الثمينة. وهمست إلى نفسي: ونحن لا نعرف الأماكن، ولا نملك الأدوات، لماذا؟
ويجب أن نعرف الإجابة على هذه الأسئلة، إننا لسنا فوق المساءلة! إن المسلمين الآن خمس العالم أو ربعه، ولهم دينهم ودعاواهم وآمالهم، لقد كان المفروض أن يكونوا للعالم مرشدين، فماذا أزرى بهم؟ وكان مفروضًا أن تكون يدهم العليا بالعطاء الأدبي والمادي، فماذا عراهم؟
هل لدينهم أثر في هذا العجز؟ والجواب السريع: كلا كلا، فما يوجد كتاب ينتمي إلى السماء فيه تنشيط للعقل، وإطلاق للمواهب كالقرآن الكريم! وماذا بعدْ أن يقال للناس إن الله سخر لكم الكون كله، سماءه وأرضه، فاهبطوا واصعدوا وسيحوا وقرُّوا كيف تشاؤون (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً)[لقمان:20].
هل المسلمون دون البشر، ففي بصرهم قصر، وفي فكرهم ضحالة، وفي هممهم بلادة؟ كلا كلا، فقد سادوا العالم كله أعصارًا، ودخلوا في عراك فناء أو بقاء مع أعتى أمم الأرض، وخرجوا من ميادين الوغى منتصرين بعد جلاد وحشيِّ!
إذن ما السبب فيما عرا العقل الإنسانيّ - بعد - من خمول، وما أصاب جماهير المسلمين من كلال سلط عليهم ذئاب الأرض، تنهشهم من كل جانب، ذئاب الأرض؟ لا بل ذبابها!
إن يهوديًّا من "لوس أنجلوس" بالولايات المتحدة جاء إلى فلسطين، يطلق الرصاص على أهل "الخليل" يريد استخراجهم من مساكنهم واحتياز الأرض لنفسه. إن البغاث بأرضنا يتسنسرُ!!

ليست هناك تعليقات: